موقع مصرنا الإخباري:
سعدت جدا بمبادرة وزارات (الآثار والسياحة والثقافة والتنمية المحلية) بتحويل قرية (طماى الزهايرة) مسقط رأس أسطورة الغناء العربى الست (أم كلثوم) إلى قرية نموذجية ومقصدا للسياحة الداخلية والخارجية.
وعلى حد قول محافظ الدقهلية الدكتور أيمن مختار، فإن هذا المشروع سيكون له أثره البالغ في وضع المحافطة من الناحية السياحية لما تمثله كوكب الشرق للمصريين والعرب، وباعتبارها قسيمة فنية وغنائية خالدة مازالت عالقة في الأذهان بفنها الراقي وما قدمته عبر تاريخها الغنائي، فضلا عن إسهاماتها المعروفة في النضال الوطني.
وأثمن هذه الخطوة التى جاءت متأخرة (76 عاما) من رحيل هذه الفلاحة المصرية أخلصت لفنها وصنعت أسطورة مجدها التي حركت وجدان الملايين حبا وأشواقا وزمانا جميلا، وروت عطش الحيارى والحزانى في دنيا الحب والغرام.
وكثيرا ما أسأل نفسى فى ليالى الوحشة والصقيع في زمن الزيف الغنائي الحالي: هل يمكن أن يجود الزمن علينا ولو بلحظات من هذا الوهج الخلاق ونعيش زمانا يشبه هذا الذى عشناه؟.. هل يمكن أن تطل علينا أم كلثوم أخرى أم أن للزمان أوقاتا يستريح فيها وللأيام مواسم وفصولا.. وأن الحياة حين يطل الخريف تأخذ الأشجار والعصافير إجازة، خاصة أن أم كلثوم استطاعت غبر أغنياتها العاطفية والوطنية أن تعبر عن حبها لكن دون قهر، حتى أنها أصبحت المرأة (العربية الوحيدة) التي تمكنت من أن تمزج بين الحب والقوة.
تستحق كوكب الشرق الاحتفاء بها يوميا وهى التي أضافت للتخت الشرقي معها في حفلاتها مزيجا من الشجن، الأمر الذي شكل نقطة تحول في حياتها المهنية وزاد نجوميتها منذ أن خرجت من قريتها (طماي الزهايرة) متجهة إلى القاهرة، إضافة للأفلام التي شاركت بها والتي عبرت من خلالها عن المرأة العربية أصدق تعبير، كما كانت سفيرة لبلادها والعرب بعد هزيمة حزيران 1967، حيث نظمت جولات عربية قدمت فيه الحفلات التي كان ريعها يعود للخزانة المصرية وتسليح الجيش، الأمر الذي جعلها رمزا مصريا فريدا في حب الوطن وعشق ترابه المقدس طوال رحلة عمرها التي امتدت لأكثر من 60 عاما.
بدأت سيدة الغناء العربي في عمر صغير التجوال مع والدها مؤدية الأغاني في الأعراس ومنشدة الآيات القرآنية في المناسبات الدينية، وكان والدها يقدمها على أنها صبي كونه لا يسمح للمرأة أن تقرأ القرآن علنا في المناسبات، في عمر السابعة بدأ يذيع صيتها وأخذت تغني في منازل الأثرياء الذين أُعجبوا بقوة صوتها وأدائها لدرجة أنها حصلت في إحدى المرات على عشر قروش كإكرامية – مبلغ كان يساوي وقتها نصف مرتب والدها – ولم يطل الأمر حتى بدأت أم كلثوم تجول دلتا النيل لتغني في مختلف المناسبات الدينية والعائلية.
في عمر السادسة عشر لاحظ موهبتها المغني الشهير أبو العلا محمد وعازف العود زكريا أحمد والذي دعاها إلى القاهرة، وفي أوائل عشرينيات القرن الماضي، وتحديدا عام 1923 قبلت الدعوة وانتقلت عائلتها إلى القاهرة ليتاح للنجمة الصغيرة أن تبدأ حياتها المهنية، وبدأت بأخذ دروس الموسيقا وغالبا مع أساتذة خصوصيين لأن النادي الموسيقي الشرقي في القاهرة لم يكن يقبل إناثا بين طلابه في ذلك الوقت، حيث أشرف أمين بيه المهدي على تعليمها العود.
وبمجرد أن بدأت تقدم العروض الموسيقية كانت ظاهرة مميزة لجمهور القاهرة الغني، والذين لقبوها بـ (البدوية) نظرا لخلفيتها الريفية وأدائها الموسيقي التقليدي بالإضافة إلى ملابسها التي تعكس البيئة التي أتت منها، فقد كانت ترتدي ملابس من تراث بيئتها عبارة عن عباءة فضفاضة طويلة حتى الكاحل ووشاح تلفه حول رأسها، والعديد من حفلاتها كانت تضم أغانٍ ريفية إلى جانب أغاني وأشعار الحب.
وتعد المرحلة المحورية في مسيرة أم كلثوم المهنية جاءت عام 1926، حين وقعت عقدا مع شركة تسجيلات لأقراص (الجرامافون) تضمن راتبا سنويا لها بالإضافة إلى نسبة على كل قرص يتم بيعه، وبعد أن وصلت للأمان الاقتصادي بهذا العقد بدأت تظهر بشكل أكبر كمؤدية محترفة وبملابس عصرية في وقتها من خلال فساتين طويلة، وفي نفس الفترة تعرفت على الشاعر أحمد رامي الذي كتب لها 137 أغنية وعلى الملحن محمد القصبجي.
على الصعيد الموسيقي، ثمة حدثان مهمان حدثا في نفس العام دفعا أم كلثوم إلى النجومية، الأول أنها اتخذت قرارا بألا ترافقها عائلتها مرة أخرى أثناء أدائها الغنائي، وأن يتم تعويضهم بتخت شرقي (فرقة مؤلفة من مجموعة من الموسيقيين والآلات المختلفة) وشكلت أم كلثوم هذا التخت من أمهر موسيقيي عصرها، وهو ما نقلها من مغنية شعبية إلى مطربة محترفة مع موسيقى عصرية ومتطورة، الحدث الثاني الهام هو تغييرها لنمط أغانيها من الأغاني التقليدية والدينية إلى الأغاني المعتمدة على أشعار وألحان حديثة وتنافس أهم الشعراء والملحنين في ذلك العصر على إعطائها أعمالهم الفنية.
بحلول عام 1930 أصبحت السينما حديث الشارع المصري وقد حاولت أم كلثوم ترك بصمتها هناك، فأنتجت ومثلت في عدد من الأفلام التي حملت طابعا رومانسيا قريبا لأغانيها ومن هذه الأفلام: (وداد، نشيد الأمل، دنانير)، ورغم عدم خبرتها التمثيلية فقد أعطيت الصلاحية في القرارات المهمة في الأفلام التي غالبا ما احتوت فقرات غنائية لكنها كانت قصيرة وبعيدة عن طابع أمسياتها الطويل.
كانت أربعينيات القرن الماضي الفترة الذهبية لأم كلثوم حيث أطلقت فيلميها الأشهر (سلامة، وفاطمة)، الفيلمان اللذان تحدثا عن القيم والأخلاق في المجتمع المصري والتي تنتصر على انعدام الضمير والثروة، كما حققت نجاحا باهرا من خلال تقديمها للشعر العربي في حفلاتها بأداء غنائي جميل ولحن أصيل جعل الكثير من الجماهير حتى الأمية منها تحفظ هذا الشعر الصعب عن ظهر قلب على جزالة وعمق معانيها.
حفلاتها الموسيقية كل خميس والتي كانت تبث إذاعيا إلى كل أنحاء الشرق الأوسط كانت محط اهتمام الجماهير التي كانت تنصت بانتباه لكل كلمة وتموج في هذا الصوت الجميل، وتحليلات أدائها كانت تحتل مساحة واسعة في نقاشاتهم، مما أكسبها لقب (صوت مصر)، ومن ثم كانت على علاقة جيدة مع الملك فاروق، ولها 14 أغنية أطلق عليها الفاروقيات، بعد ثورة 1952، تم اقصاؤها عن الوسط الفني ومنعت أغانيها من الإذاعة المصرية بصفتها من العهد البائد فقررت الاعتزال، ومن ثم عادت للغناء بعد شهرين من المنع.
حصلت (أم كلثوم) على العديد من الجوائز والأوسمة، فقد نالت وسام الأرز ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولى عام 1955 من لبنان، وحصلت على جائزة الدولة التقديرية، وحصلت على وسام النهضة الأردني، كما نالت نيشان الرافدين العراقي، ووسام الاستحقاق السوري، ووسام نجمة الامتياز الباكستاني بعد غنائها (حديث الروح) للشاعر الباكستاني محمد إقبال، ووسام الكفاءة المغربي، وأصدر أحد البنوك الألمانية عملة ذهبية طُبع على إحدى وجهيها صورة أم كلثوم.
كثيرة هى الكتب التي تناولت سيرة كوكب الشرق لكني أتوقف عند كتاب الكاتب اللبناني الفرانكفوني سليم نصيب الذي كتبه باللغة الفرنسية وترجمه الشاعر الراحل بسام حجار إلى العربية بعنوان (كان صرحاً من خيال، والذي رصد في صفحاته قصة الحب ذات الطابع العذري بين الشاعر أحمد رامي و(كوكب الشرق) أم كلثوم، ويتبع (نصيب) في كتابته أسلوب الكاتب النمساوي (ستيفان زفايج)، الذي اعتاد أن يكتب سير شخصيات تاريخية في شكل أدبي مثلما فعل مع ماري أنطوانيت، والسياسي جوزيف فوشيه، وغيرهما.
والحقيقة أن كتاب سليم نصيب (كان صرحا من خيال) وثق فيه حياة المطربة المصرية أم كلثوم عبر لسان الشاعر أحمد رامي الذي نظم أكثر من 137 أغنية من أصل 283 أغنية أنشدتها سيدة الغناء العربي طوال رحلتها الفنية، والجميل أن (نصيب) لم يطلق على عمله مصطلح (رواية)، كما أطلق صحفي مصري مغمور على تخاريفه راوية بعنوان (حانة الست) والتي سرق أحداثها من ترجمة الكاتب اللبناني، فبحسب ما ينقله المترجم حجار عن المؤلف، فإنه يصفه بالكتاب (استوحيت فصول هذا الكتاب من قصته – أي أحمد رامي – غير أن المذكرات التي تشتمل عليها الصفحات هى مجرد خيال وجمع المعلومات مع دمجها بإطار وحبكة أدبية خيالية كالتي في الروايات.
ويحسب لسليم نصيب أنه لم يجر وراء التفاصيل الكثيرة أو الشائعات – كما جرى الكاتب المغمور في إساءة بالغة تستحق المحاسبة – التي تتناول حياة أم كلثوم، وإنما اختار منها ما يخدم حبكة نصه، فالكتاب مكون من أربعة أجزاء مقسمة حسب الأعوام، الجزء الأول من 1924 إلى 1928 بداية من الفترة التي التقى فيها رامي بأم كلثوم، والثاني (1932-1938)، والثالث (1950-1956) والرابع (1965-1975)، ويغطي الجزء الأول بدايات (ثومة) فيأخذ من الحكايات ما تقوله حول الحلم الذي رآه والدها، وكان تنبؤا بمستقبلها. ويلعب التنبؤ عبر الحلم دورا محوريا في الحكايات الشعبية، فمع مولد البطل يأتي التنبؤ الذي يبشر بمصيره.
وهذا ما حدث مع أم كلثوم حين يروي والدها، (إنه في ليلة 27 من رمضان (أي ليلة القدر) غلبه النوم وهو في المسجد، فرأى في منامه سيدة في ملابس بيضاء، يشع وجهها نورا، تعطيه لفافة خضراء، وعندما يفتحها يجد شيئا له بريق سأل: ما هذا؟ – قالت: هذه جوهرة وبشرى السعد حافظ عليها، وعندما سألها من أنت؟ أجابته: أنا أم كلثوم ابنة النبي محمد، وعندما وضعت فاطمة زوجة الشيخ إبراهيم طفلتها احتارت في تسميتها، وسألت زوجها، فأجاب على الفور نسميها أم كلثوم، فالرؤيا كانت لا تزال تملأ عينيه.
وبهذا التنبؤ مضت أم كلثوم في طريقها متحدية كل العقبات، فلم تكن البنات يذهبن إلى الكتاب، إلا أنها ذهبت برفقة أخيها خالد، وكن يمنعن من الغناء، فغنت في الحفلات والليالي، وكان لقاؤها بالشيخ أبو العلا الصوت الذي شغفت به في الأسطوانات بعيدا، فالتقت به صدفة، وأصرت على أن يعود معهم إلى منزلها في قرية (طماي الزهايرة) ليعجب بصوتها، وينصح والدها بألا يترك هذه الجوهرة، وأن يذهب بها إلى القاهرة، فتتحول ممانعة الأب إلى موافقة، لتتلمذ على يد أبو العلا، وريث الحامولي، ويجلب لها القدر الشاعر أحمد رامي الذي يحضر لها حفلة وهى ترتدي زي شاب بدوي، وكانت تغني قصيدته (الصب تفضحه عيونه)، ليعجب بها، وتبدأ علاقته بها ليلتقيها كل يوم اثنين، ويطلق على هذا اليوم اسم (يوم أم كلثوم)، وهي تطلق عليه (يوم رامي).
ربما وقع المؤلف سليم نصيب في بعض الأخطاء، لكنها لم تكن مؤثرة بوصف الكتاب عملا أدبيا وليس تاريخيا، ومنها أن ينسب قصيدة (الأطلال) إلى بيرم التونسي، وهى لإبراهيم ناجي، وأغنية (الخلاعة والدلاعة مذهبي) لأحمد رامي، بينما كان أحمد رامي من ضمن المسارعين إلى منع انتشار هذه الأغنية في السوق، فهي من تأليف محمد يونس القاضي، ومع ذلك يبقى من الأشياء التي أحسن الكاتب توظيفها، السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي دارت فيها الأحداث، وهو على النقيض تمام من مؤلف رواية (حانة الست) التي شطح فيها بخياله المرض نحو شائعات لم يثبت صحتها، ومن ثم انجرف نحو الإساءة لسيدة الالغناء العربي.
بقلم محمد حبوشه