موقع مصرنا الإخباري:
كشف الصحفي الأمريكي المعروف، سيمور هيرش، أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من يقف وراء التفجيرات التي استهدفت خطوط نقل الغاز الروسي إلى أوروبا “نورد ستريم 1 و2″، حيث تمت العملية تحت غطاء تدريبات لحلف شمال الأطلسي روج لها على نطاق واسع باسم “بالتوبس 22”.
في الجزء الثاني من التحقيق، الذي ترجمته عربي21″، يركز هيرش على تفاصيل العملية، والدور الكبير الذي لعبته النرويج فيها.
كانت “عربي21” قد نشرت الجزء الأول.
ويكشف هذا الجزء مدى التعاون الوثيق بين المخابرات الأمريكية والنرويجية، وكيف استطاع ذلك التعاون تخطي الكثير من العقبات، ومنها الالتفاف على أي معلومات قد تكشف من خلال السويد والدنمارك.
يكشف الجزء الثاني كذلك الوحدات الأمريكية والنرويجية التي قامت بالعملية، وكيفية تنفيذها.
وتاليا الجزء الثاني من التحقيق:
النرويج المكان المثالي
كانت النرويج هي المكان المثالي كمقر للعملية.
خلال السنوات القليلة الماضية من الأزمة بين الشرق والغرب، وسع الجيش الأمريكي تواجده بشكل كبير داخل النرويج، التي تمتد حدودها الغربية لمسافة تصل إلى 1400 كيلومتر على طول المحيط الأطلسي الشمالي لتتداخل مع روسيا فوق الدائرة القطبية. وكانت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) قد أوجدت وظائف وعقودا بأجور مرتفعة، وسط بعض الجدل المحلي، من خلال استثمار مئات الملايين من الدولارات لتحديث وتوسيع مرافق سلاح البحرية وسلاح الجو الأمريكيين في النرويج. من أهم ما تضمنته الأعمال الجديدة رادار متقدم بفتحة اصطناعية في منطقة نائية في أقصى الشمال، لديه القدرة على اختراق العمق الروسي، وبدأ تشغيله في نفس الوقت الذي فقدت فيه دوائر الاستخبارات الأمريكية التواصل مع سلسلة من مواقع التنصت طويلة المدى داخل الصين.
تم تشغيل قاعدة غواصات أمريكية أعيد ترميمها وتحديثها مؤخراً، وهي التي لبثت قيد الإنشاء سنين، وصار بإمكان المزيد من الغواصات الأمريكية الآن العمل عن كثب مع زملائهم النرويجيين لرصد الحصن النووي الروسي على بعد 250 ميلاً إلى الشرق في شبه جزيرة كولا والتجسس عليه. كما أدخلت أمريكا توسعة ضخمة على قاعدة جوية نرويجية في الشمال وسلمت سلاح الجو النرويجي أسطولاً من طائرات “بيه 8 بوزيدون” من صنع شركة بوينغ، وهي المتخصصة في الرصد والمراقبة، وذلك لتعزيز تجسسها طويل المدى على كل شيء روسي.
بالمقابل، أغضبت الحكومة النرويجية الليبراليين وبعض المعتدلين داخل برلمانها في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بإجازتها للاتفاق التكميلي للتعاون الدفاعي. تنص الصفقة الجديدة على أن النظام القانوني للولايات المتحدة سيكون هو جهة الاختصاص في “مناطق يتم الاتفاق عليها” في الشمال، له صلاحية البت في القضايا التي تتعلق بالجنود الأمريكيين المتهمين بارتكاب جرائم خارج القواعد، وكذلك في قضايا المواطنين النرويجيين المتهمين بالتدخل في العمل داخل القاعدة.
كانت النرويج إحدى البلدان التي وقعت ابتداءً على معاهدة الناتو في عام 1949، في الأيام الأولى من الحرب الباردة. يشغل منصب القائد الأعلى للناتو اليوم جينس ستولتنبيرغ، المعروف بعدائه الحازم للشيوعية، والذي شغل منصب رئيس وزراء النرويج لثمانية أعوام قبل أن ينتقل في عام 2014 إلى منصبه الرفيع داخل الناتو، بدعم من الولايات المتحدة. كان متشدداً في كل ما يتعلق ببوتين وروسيا، وتعاون مع الدوائر الاستخباراتية الأمريكية منذ حرب فيتنام. ومنذ ذلك الحين وهو يحظى بثقة تامة. يقول المصدر عنه: “إنه القفاز الذي جاء على مقاس اليد الأمريكية.”
في واشنطن، عرف المخططون أن عليهم أن يتجهوا من خلال النرويج. يقول المصدر: “إنهم يكرهون الروس، وسلاح البحرية النرويجي مليء بالبحارة والغواصين الرائعين الذين يحظون بأجيال من الخبرات في التنقيب عن النفط والغاز في قعر البحر، وهي المهنة التي تعود عليهم بعوائد سخية للغاية.” كما أنه يمكن الوثوق بأمانتهم ومحافظتهم على سرية المهمة. (لربما كان للنرويجيين مصالح أخرى كذلك. فتدمير “نورد ستريم”، لو تمكن الأمريكان من إنجازه، سوف يتيح للنرويج فرصة بيع كميات أكبر بكثير من غازها الطبيعي إلى أوروبا.)
في وقت ما من شهر آذار/ مارس، سافر بضعة من أعضاء الفريق إلى النرويج لمقابلة نظرائهم في جهاز المخابرات وفي سلاح البحرية النرويجيين. أحد الأسئلة الأساسية هو أين بالضبط في بحر البلطيق هو المكان الأفضل لزرع المتفجرات. في طريقهما إلى ميناء غريفزوالد في الطرف الشمالي الشرقي من ألمانيا، “نورد ستريم 1” و”نورد ستريم 2″، وكلاهما يتكونان كلاً على حده من مجموعتين من خطوط الأنابيب، يتباعدان عن بعضهما البعض طوال جل المسافة التي يقطعانها مسافة تزيد قليلاً عن ميل.
سارع سلاح البحرية النرويجي إلى إيجاد النقطة المناسبة، في المياه الضحلة لبحر البلطيق على بعد بضعة أميال من جزيرة بورنهولم الدنماركية. تمتد خطوط الأنابيب بالتوازي تفصلها عن بعضها البعض مسافة تزيد قليلاً عن ميل على أرض البحر التي توجد على عمق لا يتجاوز 260 قدماً. وهذه مسافة تقع ضمن المدى الذي يمكن للغواصين الوصول إليه، إذ يعملون انطلاقاً من مصيدة ألغام نرويجية اسمها ألتا، فيغوصون مستخدمين مزيجاً من الأكسجين والنيتروجين والهيليوم، الذي يتدفق إليهم من داخل خزاناتهم، ثم يقومون بزرع متفجرات من نوع “سي 4” على الأنابيب الأربعة المحاطة بأغطية واقية مصنوعة من الخرسانة. وهذه عملية تستغرق وقتاً وجهداً وتكتنفها المخاطر، إلا أن المياه المقابلة لبورنهولم لها ميزة أخرى، ألا وهو عدم وجود تيارات كبيرة من شأنها لو وجدت أن تصعب مهمة الغواصين.
بعد قليل من البحث قرر الأمريكان الانضمام بالكامل.
عند هذه النقطة برز مجدداً دور مجموعة الغوص العميق الغامضة التي توجد في بنما سيتي. من الملاحظ هنا أن مدارس الغوص العميق في بنما سيتي، التي شارك متدربوها في آيفي بيلز، يعتبرون غير مرغوب فيهم من قبل نخب الخريجين من الأكاديمية البحرية في أنابوليس، والذين يسعون في العادة نحو المجد من خلال تسلم مهام خاصة، سواء في البحر أو الجو أو البر. فيما لو لم يجد أحدهم بداً من العمل في مهمة “الحذاء الأسود” – أي استلام وظيفة أقل بريقاً على ظهر إحدى السفن الحربية – فهناك العديد من الفرص في إحدى المدمرات أو السفن أو المركبات البر بحرية. من أقل الوظائف بريقاً على الإطلاق تلك التي توجد في مجال حرب الألغام، فغواصو تلك المهمات لا يرد ذكرهم في أفلام هوليوود ولا تنشر صورهم على أغلفة المجلات الشهيرة.
يقول المصدر: “يشكل أفضل الغواصين المؤهلين للقيام بمهام في الأعماق مجتمعاً صغيراً، ونخبة النخبة منهم فقط هم من يجندون للعملية ويطلب منهم أن يكونوا على أهبة الاستعداد للاستدعاء من قبل وكالة المخابرات المركزية في واشنطن.”
والآن، أما وقد بات متوفراً لدى النرويجيين والأمريكيين الموقع والمجندون، إلا أنه يبقى لديهم تخوف آخر. فأي نشاط غير اعتيادي داخل المياه قبالة بورنهولم قد يلفت انتباه سلاح البحرية في السويد أو في الدنمارك، وقد يقوم هؤلاء بتقديم تقرير فيه.
يذكر أن الدنمارك أيضاً كانت من البلدان الأولى التي وقعت على معاهدة الناتو، وعرف عنها في دوائر المخابرات ارتباطها بعلاقات خاصة مع بريطانيا. أما السويد فتقدمت بطلب للانضمام إلى عضوية الناتو، وأثبتت مهارة فائقة في إدارة أنظمة الحس المغناطيسي التابعة لها تحت سطح الماء، والتي رصدت بنجاح باهر الغواصات الروسية التي تتواجد من حين لآخر في المياه البعيدة للأرخبيل السويدي ويتم إجبارها على الطفو فوق السطح.
انضم النرويجيون إلى الأمريكيين في الإصرار على إخبار بعض كبار المسؤولين في الدنمارك والسويد بدون كثير من التفصيل باحتمال حدوث نشاطات غوص في المنطقة. وبهذه الطريقة يمكن ضمان تدخل أحد الرتب العليا للحيلولة دون تمرير أي تقارير عبر التسلسل القيادي الهرمي، وبذلك يتم توفير الحماية لعملية خط الأنابيب فتبقى طي الكتمان. أخبرني المصدر قائلاً: “لربما قُصد عمداً أن يكون ما أخبروا به وما باتوا يعرفونه مختلفاً.” (لم تجب السفارة النرويجية على طلب تم تقديمه لها بالتعليق على هذا التقرير.)
كما لعب النرويجيون دوراً رئيسياً في تجاوز عقبات أخرى. كان يعرف عن سلاح البحرية الروسي امتلاكه لتكنولوجيا رصد قادرة على الكشف عن وجود الألغام تحت سطح البحر، بل وحتى تفجيرها عن بعد. ولذلك كان من الضروري تمويه العبوات المتفجرة الأمريكية بطريقة تجعلها تبدو في الأجهزة الروسية جزءاً من الخلفية الطبيعية، شيء مطلوب تكييفه مع ملوحة مياه البحر تحديداً. وكان الحل موجوداً لدى النرويجيين.
كما كان لدى النرويجيين كذلك حل لمسألة مهمة أخرى ألا وهي متى ينبغي تنفيذ العملية. كل حزيران/ يونيو، وعلى مدى 21 سنة خلت، يرعى الأسطول السادس الأمريكي، الذي تتخذ سفينة القيادة فيه مقراً لها في غايتا إلى الجنوب من روما العاصمة الإيطالية، مناورة كبرى لحلف شمال الأطلسي في بحر البلطيق تشارك فيها العشرات من السفن التابعة لدول التحالف في مختلف أرجاء المنطقة. يطلق على المناورة الحالية التي ستنظم في حزيران/ يونيو عمليات البلطيق 22 أو بالتوبس 22. اقترح النرويجيون أن تلك المناورة يمكن أن تكون الغطاء المثالي لعملية زرع الألغام.
وفر الأمريكيون عنصراً بالغ الأهمية، ألا وهو إقناع من يقومون على التخطيط في الأسطول السادس بإضافة تمرين على البحث والتطوير إلى البرنامج. يشارك في التمرين، الذي أعلن عنه سلاح البحرية، الأسطول السادس بالتعاون مع مراكز البحث والحروب في سلاح البحرية. تقرر أن يتم تنظيم الحدث البحري قبالة ساحل جزيرة بورنهولم، بحيث يتضمن قيام فرق من غواصي الناتو بزرع ألغام، وفي سياق ذلك تستخدم الفرق المتنافسة أحدث ما توصلت إليه تقنيات الأعماق البحرية في مجال العثور على الألغام والتخلص منها.
كان تمريناً مفيداً وغطاءً عبقرياً في نفس الوقت، حيث يقوم فتيان بنما سيتي بواجبهم ويتم زرع متفجرات سي 4 في الأماكن المخصصة لها بنهاية بالتوبس 22، وقد تم تثبيت مؤقت لثمانية وأربعين ساعة بها، بحيث يكون جميع الأمريكيين والنرويجيين قد غادروا قبل وقت طويل من الانفجار الأول.
بدأ العد التنازلي. وعن ذلك يقول المصدر: “كانت عقارب الساعة تتحرك، وكنا نقترب من اكتمال المهمة.”
ثم بعد ذلك، راودت واشنطن هواجس أخرى. فالقنابل سيتم زرعها أثناء تدريبات بالتوبس، ولكن خشي البيت الأبيض أن التفجير بعد يومين فقط من انتهاء المناورة سوف يرسل إشارة واضحة بأن الأمريكيين كانوا ضالعين.
بدلاً من ذلك تقدم البيت الأبيض بطلب جديد: “هل بإمكان الشباب إيجاد طريقة ما بحيث يتسنى تفجير خط الأنابيب في وقت لاحق عن بعد؟”.
بعض أعضاء فريق التخطيط غضبوا وشعروا بالإحباط إزاء ما بدا لهم أنه تردد من قبل الرئيس في المضي قدماً بالأمر. كان غواصو بنما سيتي قد تدربوا مراراً وتكراراً على زرع المتفجرات فوق خطوط الأنابيب، استعداداً لتنفيذ ذلك أثناء بالتوبس، ولكن بات الآن مطلوباً من الفريق في النرويج التوصل إلى وسيلة توفر لبايدن ما طلبه، أي القدرة على إصدار أمر ناجح بالتنفيذ في الوقت الذي يختاره هو.
وكالة المخابرات الأمريكية معتادة على أن يطلب منها إحداث تغييرات تعسفية في اللحظة الأخيرة، ولكن كان من جراء ذلك تجدد المخاوف التي عبر عنها البعض حول مدى ضرورة وشرعية العملية بأسرها.
كما أعادت الأوامر السرية الصادرة عن الرئيس إلى الذاكرة ذلك المأزق الذي وجدت وكالة المخابرات المركزية نفسها فيه أثناء حرب فيتنام، عندما أقدم الرئيس جونسون، في مواجهة المعارضة المتنامية للحرب في فيتنام، على أمر الوكالة بانتهاك نظامها الأساسي – والذي يحظر عليها تحديداً العمل داخل أمريكا – من خلال التجسس على زعماء الحركة المناهضة للحرب لمعرفة ما إذا كانوا يدارون من قبل روسيا الشيوعية.
في النهاية خضعت الوكالة، وأصبح جلياً طوال السبعينيات المدى الذي كانت على استعداد للذهاب فيه. ولقد نُشرت تحقيقات صحفية ما بعد فضيحة ووترغيت تكشف عن ضلوع الوكالة في التجسس على المواطنين الأمريكيين، وعن تورطها في اغتيال قادة أجانب، وعن تقويضها للحكومة الاشتراكية بزعامة سلفادور أيندي.
أفضت هذه الكشوفات إلى سلسلة دراماتيكية من جلسات الاستماع في منتصف سبعينيات القرن الماضي داخل مجلس الشيوخ بزعامة فرانك تشيرش من إيداهو، تجلى من خلالها بكل وضوح موقف ريتشارد هيلمز، الذي كان مديراً للوكالة حينذاك، من أنه ملتزم بتنفيذ رغبات الرئيس حتى لو كان ذلك يعني انتهاك القانون.
في شهادة خلف الأبواب المغلقة لم تنشر، بين هيلمز بأسلوب حزين بأنك “يكون لديك ما يشبه الإحساس بالبراءة من الخطيئة الأولى وأنت تفعل شيئاً” بموجب الأوامر السرية الصادرة عن الرئيس. وأضاف: “سواء كان صواباً صدورها أم خطأً، ما من شك في أن وكالة المخابرات المركزية تعمل في ظل قواعد، وقواعد ميدان، تختلف جوهرياً عن أي جزء آخر من الحكومة.” كان بمعنى آخر يقول لأعضاء مجلس الشيوخ بأنه كرئيس لوكالة المخابرات المركزية إنما فهم بأنه كان يعمل لصالح التاج وليس لصالح الدستور.”
عمل الأمريكيون الذين كانوا في النرويج طبقاً لنفس الديناميكية، وبدأوا بكل تفان يسعون لحل المشكلة الجديدة، كيف يمكن تفجير العبوات من نوع “سي 4” عن بعد حالما يأمر بايدن بذلك. كانت تلك المهمة أصعب بكثير مما كان يظن أولئك الذين يربضون في واشنطن. لم يكن لدى من في النرويج وسيلة لمعرفة متى سيضغط الرئيس على الزر. هل سيكون ذلك في بضعة أسابيع، أو في العديد من الشهور، أم بعد نصف سنة، أم بعد أكثر من ذلك؟
سيتم تفجير عبوات “سي 4” المثبتة على الأنابيب من خلال إشارة صادرة عن مسبار صدى عائم يتم إسقاطه من طائرة عبر الإشعار العاجل. إلا أن الإجراء تدخل فيه أحدث تقنيات معالجة الإشارات. فبمجرد تركيبها، يمكن لأجهزة التوقيت المرافقة للمتفجرات المثبتة على أي من خطوط الأنابيب الأربعة أن تنطلق عرضاً بفعل مزيج معقد من الضجيج الذي يعج به المحيط في الخلفية في أرجاء بحر البلطيق الذي يشهد حركة مرورية كثيفة، من قبل السفن القريبة أو البعيدة، وبسبب الحفر الذي يجري تحت سطح الماء، وما يحدث من ارتجاجات وارتدادات، وبسبب الأمواج، وحتى من قبل الكائنات البحرية. ولتجنب ذلك، بمجرد أن يصل مسبار الصدى العائم إلى مكانه، سوف يبدأ ببث ترادف من الأصوات النغمية ذات التردد المنخفض والفريدة من نوعها – شبيهة تماماً بتلك التي تنبعث من المزمار أو من البيانو – تتعرف عليها مؤقتات العبوات المتفجرة، وبعد تأخير يتم ضبطه مسبقاً ويستمر لساعات محددة، يتم تفجير العبوات. (قال لي الدكتور تيودور بوستول، الأستاذ الفخري للعلوم والتكنولوجيا وسياسة الأمن القومي في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا: “تحتاج إلى إشارة تكون قوية بما فيه الكفاية بحيث لا يتسنى لأي إشارة أخرى تنطلق عرضاً أن تفجر العبوات.” وقال البروفيسور بوستول، الذي شغل منصب المستشار العلمي لرئيس العمليات البحرية في وزارة الدفاع الأمريكية، إن القضية التي واجهت المجموعة في النرويج بسبب التأخير الذي طلبه بايدن ترتبط بالحظ: “فكلما طالت فترة وجود المتفجرات في المياه كلما زادت مخاطر انطلاق إشارة عشوائية تفضي إلى تفجير القنابل.”)
في السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2022، قامت طائرة استطلاع من طراز “بيه 8” تابعة لسلاح البحرية النرويجي بما بدا أنه رحلة روتينية، ولكنها أسقطت مسبار صدى عائم، انبثت الإشارة منه تحت سطح الماء، وصولاً بادئ ذي بدء إلى “نورد ستريم 2” ثم من بعد ذلك إلى “نورد ستريم 1”. بعد بضع ساعات انفجرت العبوات القوية من طراز “سي 4” وأسفر عن ذلك تعطيل ثلاثة من خطوط الأنابيب الأربعة. خلال دقائق، شوهدت برك من غاز الميثان، الذي بقي داخل خطوط الأنابيب المدمرة، وهي تنتشر فوق سطح المياه، وعرف العالم أن شيئاً لا يمكن إبطاله قد وقع.
التداعيات
مباشرة بعد تفجير خط الأنابيب، عاملت وسائل الإعلام الأمريكية الحدث كما لو كان لغزاً لا قبل لأحد بحله. أشير إلى روسيا باعتبارها المجرم المحتمل، ولقد ساعد في الترويج لهذه التكهنات تسريبات من البيت الأبيض، ولكن بدون إثبات وجود محفز واضح لمثل هذا العمل من التخريب الذاتي سوى الزعم إنه عمل انتقامي. بعد بضعة شهور، عندما ورد ما يفيد بأن السلطات الروسية كانت تبحث بصمت على تقديرات لتكاليف إصلاح خطوط الأنابيب، وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” الخبر بأنه “نظريات معقدة حول من يقف وراء” الهجوم. لم تكلف أي من الصحف الأمريكية نفسها مؤونة التنقيب في التهديدات التي أطلقت في وقت مبكر ضد خطوط الأنابيب على لسان بايدن وعلى لسان وكيل وزارة الخارجية نولاند.
بينما لم يكن واضحاً بتاتاً لماذا قد تسعى روسيا إلى تفجير خطوط أنابيبها التي تعود عليها بربح وفير، صدر على لسان وزير الخارجية بلينكن ما هو أكبر دلالة في تفسير المنطق الذي يقف من وراء ما اتخذه الرئيس من إجراء.
فحينما سئل في مؤتمر صحفي في شهر أيلول/ سبتمبر الماضي عن تداعيات أزمة الطاقة المتفاقمة في أوروبا الغربية، وصف بلينكن تلك اللحظة بالقول إنها يمكن أن تحمل في طياتها خيراً كثيراً:
“إنها فرصة عظيمة لكي ننهي بشكل قطعي الاعتماد على الطاقة الروسية، وبذلك ننتزع من فلاديمير بوتين استخدام الطاقة كسلاح، وكوسيلة للدفع قدماً بمخططاته الإمبريالية. هذا أمر بالغ الأهمية، وهو يمنحنا فرصة استراتيجية كبيرة على مدى السنين القادمة، ولكننا في هذا الوقت عازمون على فعل كل ما في وسعنا من أجل ضمان ألا تثقل تداعيات كل هذا الأمر كاهل المواطنين في بلداننا أو في أي مكان حول العالم.”
كما أعربت فيكتوريا نولاند مؤخراً عن رضاها لزوال أحدث خطوط الأنابيب. وقالت مخاطبة السيناتور تيد كروز خلال شهادتها في جلسة استماع أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ: “أنا مثلك كذلك، وأعتقد أن الإدارة أيضاً ممتنة جداً لمعرفة أن “نورد ستريم 2″ بات الآن، كما تعلم، كومة من الخردة المعدنية في قعر البحر.”
إلا أن المصدر لديه نظرة أشد حنكة تجاه قرار بايدن تخريب خط غازبروم الممتد على مسافة تصل إلى 1500 ميل قبيل دخول الشتاء مباشرة. يقول المصدر عن الرئيس: “حسناً. لابد من أن أعترف بأن الرجل لديه الجرأة، فقد قال إنه سيفعلها، وقد فعلها.”
ولدى سؤاله لماذا يظن أن الروس لم يردوا، قال بتهكم: “لربما يريدون القدرة على القيام بنفس ما فعلته الولايات المتحدة.”
ومضى يقول: “كانت حكاية جميلة لإخفاء الحقيقة، التي كان من ورائها عملية سرية وضعت الخبراء في الميدان واستخدمت تجهيزات تم تشغيلها بالإشارة عن بعد. كان العيب الوحيد هو قرار تنفيذها.”
المصدر: عربي 21