موقع مصرنا الإخباري:
إن بحث الأوامر والنواهي في الدين الإسلامي، وهل هي حقيقية أو مجازية، من المباحث المهمة في أصول الدين، وهذه المباحث يترتب عليها الكثير من الآثار العملية في حياة المسلم، فإذا كانت هذه الأوامر والنواهي حقيقية مثلاً فكل أمر من الأوامر يجب العمل به، ولا يجب تركه أبداً وإلا يكون الإنسان المسلم قد ارتكب اثماً لتركه لهذا الفعل المأمور به، بمعنى انه يؤثم ويعقاب على تركه لهذا الفعل وهذا كذا، فالدكتور عباس شومان يكتب اليوم عن هذه المباحث الأصولية المهمة في ديننا الإسلامي…
النهى لغة: المنع، ولذا سميت العقول «نُهى» كما فى قول ربنا: «إنَّ فى ذلك لآياتٍ لأولى النهى»، وعند علماء الشرع هو: استدعاء ترك الفعل بالقول على جهة الاستعلاء.
والصيغة المخصصة للنهى عند أهل اللغة: «لا تفعل». وليس المقصود أى شىء يدل على الكف مثل: «كف»، و« ذر» و«دع»، و«اترك»، فمع أن هذه الأفعال تدل على طلب الترك، إلا أنها ليست من النهى، حيث وردت بالصيغة المخصصة للأمر.
والكلام فى استخدام صيغة النهى، أشبه بما سبق ذكره فى صيغة الأمر، غاية الأمر أن الأمر طلب فعل، بخلاف النهى، فهو طلب ترك، وبين العلماء خلافٌ فيما تفيده صيغة النهى، حيث اختلفوا فيها على أربعة أقوال: فيرى بعضهم: أنه يفيد الكراهة التنزيهية، إذا ورد مطلقا خاليا عن القرينة، ويرى البعض: أن صيغة النهى من المشترك الذى يستخدم للتحريم حينا، وللكراهة التنزيهية حينا آخر، وتوقف فريق ثالث: فقالوا يجب التوقف حتى يرد دليل على ما تفيده صيغة النهى حقيقة، وأكثر العلماء: على أن صيغة النهى تفيد التحريم متى وردت خالية عن القرينة، وهذا هو الرأى المعتبر عند أهل العلم، وهو الذى يؤيده الاستخدام اللغوى، فهم يفهمون أن من قال لمن له ولاية عليه كالابن أو الخادم: لا تفعل كذا، أن هذا يعنى منعه عن فعل ما نهاه عنه، ولذا يحق له أن يعاقبه إن فعل ما نهاه عنه، كما أن كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله الأكرم، قد ورد فيهما النهى كثيرا دالًّا على التحريم فكان أصلًا فيه، كما كان الأمر أصلا فى الدلالة على الوجوب، ومن استخدام القرآن الكريم النهى للدلالة على التحريم قوله تعالى «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا. وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا. وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا. وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا»، فقد حرمت الآيات بطريق النهى: «قتل الأولاد خشية الفقر، الزنا وما قرب إليه، قتل النفس المعصومة، الاعتداء على مال اليتيم»، ومنه «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ….»، «لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ»، «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ»، ويستخدم لإفادة أمور أخرى فيستخدم للكراهة كقوله تعالى: «…وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ…».
ومن استخدام النهى للتحريم فى السنة المطهرة، قوله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ المَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلاَ بَيْنَ المَرْأَةِ وَخَالَتِهَا»، ويأتى للإرشاد، كقوله تعالى: «… لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ…} فهو مجرد توجيه ليتجنب المرء السؤال عن أمور لم تطلب منه، ولكنه إن سأل عنها فلا إثم عليه، ويأتى النهى لإفادة الدعاء، ومنه قوله تعالى «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»، و«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ»، ويأتى للتقليل من شأن المنهى عنه واحتقاره كقوله تعالى: «لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى»، فهو قليل وحقير، بخلاف ما عند الله.
ويأتى النهى للدلالة على بيان العاقبة: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»: فبيّنت الآية أن عاقبة الجهاد: السعادة فى الآخرة الباقية، ويأتى للطمأنة والتسكين كقوله تعالى: «لَا تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى»، ويأتى النهى للحث على الشفقة والرحمة، كقوله صلى الله عليه وسلم حين مر على قوم ووجدهم وقوفا على دوابهم: «ارْكَبُوهَا سَالِمَةً وَدَعُوهَا سَالِمَةً، وَلَا تَتَّخِذُوهَا كَرَاسِيَّ، لِأَحَادِيثِكُمْ فِى الطُّرُقِ، وَالْأَسْوَاقِ فَرُبَّ مَرْكُوبَةٍ خَيْرٌ مِنْ رَاكِبِهَا هِىَ أَكْثَرُ ذِكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ»، ويأتى للتيئيس كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
ومن المباحث المتعلقة بصيغة النهى التى اختلف حولها العلماء دلالة النهى على الأمر بضد المنهى عنه، حيث رأى بعضهم أن صيغة النهى لا تدل إلا على ما نهت عن فعله، أمَّا ضده فهو يحتاج إلى دليل يخصه إن كان مطلوبًا، بينما يرى جمهورهم: أن النهى بشىء هو فى الوقت ذاته يدل على الأمر بضده، فمن قال: «لا تنطق بكلمة»، فقد نهاه عن النطق وأمره بالسكوت، حيث إن الاستجابة للنهى لا تكون إلا بالسكوت، فيكون مأمورًا بالسكوت، ومنهيًّا عن الكلام، ومثل هذا الخلاف ورد عنهم فى صيغة الأمر، حيث رأى البعض أنها لا تدل إلا على طلب المأمور به، أمَّا ضده فهو يحتاج إلى دليل يخصه، إن كان غير مطلوب، بينما يرى جمهورهم: أن الأمر بشىء نهى عن ضده، فمن قال لشخص: «قم»، فقد نهاه عن هيئات الجلوس والنوم وغيرهما من الهيئات التى تمنع حصول الهيئة المأمور بها وهى القيام.
وما كان هذا الثراء ليستفاد من صيغة النهى ومن قبله الأمر، لولا الثراء اللغوى الذى تعلق بهما، فحُقَّ لنا أن نفخر بلغتنا ونحمد الله أن جعلنا من أهلها ونحمل اسمها.