الحوار التلفزيوني الذي أجراه الكاتب الصحفي الكبير سعيد الشحات، وتطرق خلاله إلى سيرته الذاتية، ومشواره الصحفي الطويل، والنشأة الريفية المميزة، ألهمني فكرة هامة حول مشروع ثقافي كبير لتوثيق السيرة الذاتية للمفكرين والأدباء والشعراء والفنانين، ورحلتهم من الميلاد والطفولة إلى سنوات الدراسة والتعلم، والبدايات المتعثرة، وصعوبات الطريق، والقصص الكبيرة التي غيرت مساراتهم، وصولا إلى الشهرة.
وزارة الثقافة لها مشروع لتوثيق للأماكن التي عاش الفنانون والمثقفون بها، يعرف بـ اسم “عاش هنا”، حيث يتم وضع لوحة رخامية في مدخل العقار الذي كان يسكنه المثقف أو الفنان، كدليل على وجوده في هذا المكان، إلا أن هذا الإجراء ليس كافياً، بل منقوصاً، فيجب توثيق السيرة الذاتية للفنانين والمثقفين والأدباء وكبار الصحفيين على نحو يكفل للأجيال المقبلة أن تتعلم من سيرة هذه الأعلام، وتستفيد من خبراتها وتجاربها، ودورها الثقافي والحضاري في خدمة المجتمع.
فن توثيق السيرة الذاتية يفتقر إلى الكثير من الثوابت والمحددات، فغالباً ما يتم عمل أفلام ومواد مصورة عن الأشخاص بعد وفاتهم، لتصبح هذه الأفلام “بلا روح”، أشخاص يتحدثون عن مسيرة لم يمروا بها، وأحداث ووقائع وصلت إليها بطريق “العنعنة” والسماع، حتى ولو كانت تربطهم علاقات قوية أو صلات قرابة بهذه الشخصيات، فلا يمكن لمن خاض تجربة حياتيه زاخرة بالفكر والثقافة أن يقص حكايته غيره، إلا إذا كان في إطار النقد الفني والأدبي، والتقييم لما قدم.
أتصور أن معالجات السير الذاتية في العصر الراهن يجب أن تنتقل من فكرة المذكرات الشخصية والكتابة إلى حوارات الفيديو المسجلة، فالأخيرة قادرة على رصد الانفعالات والحكم على التجربة، كما أنها أخف ظلاً وأكثر حضوراً، وأقرب إلى التفاعل والمشاهدة من فكرة الكتابة فقط، أو السرد المتسلسل، خاصة أن الكتابة فن وخبرة لا يجيدها الجميع، لذلك يجب أن يكون هناك مشروع إعلامى كبير لتوثيق السيرة الذاتية لمن كانت لهم أدوار مؤثرة في كل المجالات، حتى نستأنس بهذه المسيرة، ونتعلم منها، ونحصل على خبرات هؤلاء الأشخاص سواء كانوا معنا أو غيبهم الموت، وأن يشمل هذا المشروع أسئلة واضحة وإجابات أكثر وضوحاً، ليصبح صاحب السيرة بطلها الحقيقي، وليس الأصدقاء أو المقربين أو حتى أبنائه وزوجته.
عشرات الفنانين والمثقفين ماتوا دون أن يتركوا حواراً تلفزيونياً واحداً يرصد حياتهم العامة أو الخاصة، كيف بدأوا وأين تعلموا؟ كيف كانت تجربتهم وكيف تغلبوا على الصعوبات أو انكسروا أمامها، لقد بحثت كثيراً عن حوار مسجل للفنان الكبير زكى رستم، للتعرف على هذه الشخصية النادرة ولم أجد.. حوار مطول ومتكامل مع أم كلثوم، عن النشأة والمسيرة ولم أجد إلا قصاصات وأسئلة سطحية ولا تكفي لرسم الصورة أو الحكم على التجربة، بل أكثر من ذلك عبد الحليم حافظ، لم أجد إلا مجموعة من التسجيلات النادرة المحدودة، التي يعلق فيها على أحداث ووقائع بعينها دون أن يتناول سيرته الفنية ورحلته منذ قدومه من الشرقية، حتى وصل إلى قمة النجومية في الغناء بالوطن العربى.
أخبرنى أستاذنا الكبير سعيد الشحات عن ندرة المعلومات عن الكثير من الفنانين المشاهير، أبرزهم الفنان محمود مرسى، الذي كان أسطورة فنية بكل المقاييس، وعلم من أعلام السينما والدراما لوقت طويل، وعلى الرغم من ذلك كان يرفض إجراء الحوارات الصحفية والتلفزيونية على اختلاف أنواعها، لدرجة أنه عندما مات لم تجد الصحف ما تكتبه عن نشأته وميلاده وملامح من حياته الشخصية، مع كل ما وصل إليه من نجومية وشهرة، لتظل الحكايات عنه أسيره لروايات البعض، وأبطالها يسردون حكايات دون تجارب، ومواقف دون سياقات، ونوادر وصلتهم بطريق الصدفة.
نحتاج مشروع صحفي جاد يستهدف توثيق السيرة الذاتية للمشاهير، بالصوت والصورة، وتوفير كل مصادر الرعاية والدعم لهذا المشروع، حتى نترك للأجيال المقبلة ذخيرة فكرية وحضارية وخلاصة تجارب ومسيرات أثرت في أصحابها وجعلتهم على قمة مجالاتهم، وأتصور أن هذا المشروع لن يصبح مجرد فيديوهات وأشرطة يتم حفظها في مكتبات التلفزيونات أو الصحف، بل سيحمل لأصحابه عائد اقتصادى ممتاز، حال إعداده وإخراجه بصورة احترافية.
بقلم محمد أحمد طنطاوي