بلا رادع دولي.. إسرائيل تعيد تشكيل القدس المحتلة بـ”التهجير الصامت”
وسط صمت عالمي متزايد، تتسارع وتيرة هدم المنازل الفلسطينية في القدس الشرقية بوتيرة غير مسبوقة، هذه السياسة التي تتبعها سلطات الاحتلال الإسرائيلية ليست مجرد إجراءات قانونية ضد مزاعم “البناء غير المرخص”، بل تمثل جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تشكيل التوازن الديموغرافي والسيطرة على الأراضي في المدينة المحتلة.
وفي تقرير لمجلة “+972” الإسرائيلية، رصد تزايد أعداد العائلات الفلسطينية المشردة، ومواصلة الاستيطان بوتيرة متسارعة، إذ أصبح الفلسطينيون يواجهون واقعًا قاسيًا يجعل البقاء في مدينتهم أكثر صعوبة يومًا بعد يوم.
أرقام قياسية وواقع متفاقم
في عام 2024، سجّلت مدينة القدس المحتلة رقمًا قياسيًا جديدًا في عمليات الهدم التي طالت 255 مبنى فلسطينيًا، بينها 181 منزلًا، بذريعة البناء دون ترخيص، وهو الترخيص الذي يكاد يكون الحصول عليه مستحيلًا بالنسبة للفلسطينيين.
واضطر السكان إلى تنفيذ 108 عمليات هدم بأنفسهم لتجنب الغرامات الباهظة أو السجن، وفي بداية عام 2025، استمرت هذه السياسة بالوتيرة نفسها، حيث تم هدم 46 منزلًا حتى الآن.
وفي حي جبل المكبر، على سبيل المثال، أُجبر إبراهيم مشاهرة على هدم منزله بيديه بعد سنوات من الملاحقة القانونية، ولم يقتصر الأمر على فقدان منزله، بل فُرضت عليه غرامات تصل إلى 54 ألف شيكل (نحو 15 ألف دولار)، وتكرر المشهد ذاته مع عائلة الجعابيص، التي اضطرت إلى هدم بنايتها المكونة من ثلاث شقق وشركات تجارية، وفق المجلة الإسرائيلية.
وللمرة الأولى، امتدت عمليات الهدم إلى شهر رمضان، وهي سابقة لم تحدث من قبل، ما يعكس تصعيدًا غير مسبوق في هذه السياسات.
السيطرة على التركيبة السكانية
يرى خبراء التخطيط الحضري أن عمليات الهدم ليست مجرد تطبيق لقوانين البناء، بل هي أداة تُستخدم لإعادة تشكيل التوازن الديموغرافي في القدس الشرقية.
فمنذ احتلال المدينة عام 1967، علّقت إسرائيل جميع إجراءات تسجيل الأراضي الفلسطينية، ما جعل من المستحيل إصدار تصاريح بناء قانونية، ومع ذلك، تُستخدم هذه الأراضي المصادرة لاحقًا لتوسيع المستوطنات اليهودية، في خطوة تعزز سياسة تهجير الفلسطينيين قسرًا.
ورغم تقديم بعض الفلسطينيين لمخططات بناء جماعية وفقًا للشروط الإسرائيلية، فإن هذه المحاولات غالبًا ما تفشل بسبب المتطلبات التعجيزية، مثل الحصول على إجماع جميع السكان في المنطقة المحددة.
استمرار الاستيطان دون توقف
في الوقت الذي تهدم فيه إسرائيل منازل الفلسطينيين بحجة عدم الترخيص، تُمنح المستوطنات اليهودية الضوء الأخضر للتوسع السريع، ففي عام 2024، وافقت بلدية القدس على 120 مخططًا استيطانيًا تضمنت بناء 11 ألف وحدة سكنية للمستوطنين، مقابل 57 مخططًا فقط للفلسطينيين شملت 1000 وحدة سكنية فقط، وهو أدنى رقم منذ عقد.
وفي جبل المكبر، تمت الموافقة على توسيع مستوطنة “نوف تسيون”، التي تضم حاليًا 90 عائلة، رغم أن 34 منزلًا فلسطينيًا في الحي ذاته تم هدمها خلال العام الماضي، كما خصصت بلدية القدس الإسرائيلية مليوني شيكل لإنشاء ملعب رياضي في المستوطنة، بينما لم تتوفر أي ميزانيات لدعم البنية التحتية الفلسطينية في المنطقة.
تهويد الأحياء العربية
في حي سلوان، شهد عام 2024 هدم 68 منزلاً فلسطينيًا لإفساح المجال أمام مشروع سياحي توراتي مدعوم من قبل الحكومة الإسرائيلية وجماعات المستوطنين، وعلى الرغم من المعارضة الدولية، تسارعت وتيرة تنفيذ هذا المخطط في ظل التصعيد الإسرائيلي في غزة.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل عُيّن “هينانيل جارفينكل”، الناشط المؤيد للمستوطنين، رئيسًا لقسم أملاك الغائبين في وزارة المالية الإسرائيلية، وهو القسم المسؤول عن الإشراف على ممتلكات الفلسطينيين في القدس الشرقية، ما يعزز السيطرة الإسرائيلية على الأحياء الفلسطينية.
الصمت الدولي والتواطؤ الفعلي
وحسب المجلة العبرية، فإنه على الرغم من أن عمليات الهدم ليست جديدة، فإن حجمها وتسارعها خلال السنوات الأخيرة يعكسان تغييرًا في السياسات الإسرائيلية، حيث لم يعد هناك أي رادع دولي حقيقي، وفي الماضي، كانت مثل هذه الإجراءات تُبطأ بسبب الإدانات الدولية، إلا أن إسرائيل الآن تبدو أكثر جرأة في تنفيذ هذه السياسات، مستغلة الوضع السياسي العالمي وضعف الضغط الدبلوماسي.
وفقًا لـ”تاتارسكي” من منظمة “عير أميم”، فإن ما يحدث في القدس الشرقية اليوم هو “أحد أسوأ مستويات العنف التي تمارسها الدولة ضد الفلسطينيين منذ عقود”، حيث تتعاون جميع أذرع الدولة لتحقيق هدفها الرئيسي: تقليل الوجود الفلسطيني في المدينة.