موقع مصرنا الإخباري:
هذا المشهد الذى فرض نفسه على العالم من غزة والأراضى المحتلة بعد أيام النار والدم، لم يولد صدفة، فالقاهرة تمارس دورها الطبيعى بناء على أوراق وعلاقات وموازين قوة ونفوذ، تم بناؤها على مدى سنوات بمزيج من القوة الفعلية الناعمة والعلاقات وإدراك التفاصيل والمصالح، ووجهة نظر تقوم على الثقة.
من يريد التعرف على عناصر النفوذ المصرى، يجب أن يستعيد 8 سنوات من العمل الشاق داخليا وخارجيا، حتى يقوم بدور فاعل فى كل مشكلات وصراعات المنطقة، مع إدراك تحولات دولية وإقليمية تعيد رسم علامات النفوذ إقليميا ودوليا.
وفى الأزمة الأخيرة، تراجعت قوى تقليدية اعتادت الظهور فى الحرائق، وحتى القوى الدولية بدت عاجزة حتى عن إطفاء النار فى الأراضى المحتلة، وهنا مصر ليست مجرد وسيط، لكنها طرف يمتلك القدرة على الفعل، وسط واقع مرتبك إقليميا وعالميا، فقد نجحت مصر فيما فشل فيه مجلس الأمن والأمم المتحدة، بل إن إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن بدت أقل من المتوقع فى أول اختبار لقدرتها ونفوذها على الاحتلال الإسرائيلى.
وقد بدا المحللون التقليديون وأصحاب الهوى عاجزين على استيعاب حجم التحول فى موازين النفوذ القوى بالمنطقة، لأنهم تعاملوا بالقطعة مع واقع يجب النظر إليه من باب «مجمل الأعمال»، تتحرك مصر بهدوء وثقة، وتعرف ماذا تريد، تحتفظ بعلاقات مع كل الأطراف، وتعرف متى تشد الخيوط ومتى ترخيها، كل هذا من دون تهديد أو مزايدة.
منذ اللحظة الأولى لتفجر الأوضاع فى فلسطين المحتلة، بدا الموقف المصرى هو الأكثر اتساقا، إدانة للعدوان، ومساع لوقف التدهور وفتح معبر رفح وتجهيز المستشفيات فى العريش والقناة، وإرسال سيارات إسعاف مجهزة، ومساعدات طبية وغذائية ووقود، تحرك عاجل ترافقه مواقف ومساع مع كل الأطراف، بجانب إعلان الرئيس السيسى تقديم 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة، من خلال الشركات المصرية.
الرئيس عبدالفتاح السيسى أعلن موقف مصر الثابت من القاهرة ومن باريس، داعيا لوقف أعمال العنف و«حل عادل وشامل يضمن حقوق الشعب الفلسطينى وإقامة دولته المستقلة وفق المرجعيات الدولية». الهدف الأهم كان تحرك وزير الخارجية سامح شكرى أمام مجلس الأمن ليؤكد: «لا سلام دون حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية»، اتصالات القاهرة علنا من خلال الخارجية، ودائما من خلال أجهزة المعلومات والأجهزة الأمنية التى لم تتوقف عن مساعى التواصل. مصر أجرت اتصالات مع الصين وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوربى، خاصة فرنسا وألمانيا وهولندا وإيرلندا وإقليميا مع السعودية والأردن والعراق وقطر وتونس وبالطبع الاحتلال الإسرائيلى، وأيضا مع القيادات الفلسطينية فى غزة والضفة.
دوليا رحب الاتحاد الأوروبى بوقف إطلاق النار، وعبر وزير خارجية الاتحاد جوزيب بوريل عن «إشادته بمصر والأمم المتحدة والولايات المتحدة وغيرها ممن لعبوا دورا فى تسهيل ذلك»، وشدد الاتحاد على لسان بوريل أن «الحل السياسى وحده هو الذى سيحقق السلام الدائم وينهى النزاع الفلسطينى الإسرائيلى برمته مع استعداد الاتحاد لتقديم الدعم الكامل للسلطات الإسرائيلية والفلسطينية فى هذه الجهود، والتزامه مع الشركاء الدوليين الرئيسيين بما فى ذلك الولايات المتحدة وشركاء آخرين فى المنطقة، وكذلك اللجنة الرباعية للشرق الأوسط التى أعيد تنشيطها لتحقيق هذه الغاية»، وعكست وسائل الإعلام الدولية الدور المصرى فى التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفلسطينيين فى قطاع غزة، وأشادت بجهود القاهرة من أجل السلام فى المنطقة.
وانعكست فى تحليلات الصحف والوكالات الكبرى التى تستخدم العبارات المصرية تجاه أهمية بناء سلام، وكون القاهرة تمتلك اتصالات مع كل الأطراف، ودور مصر المحورى «كوسيط لا غنى عنه فى الشرق الأوسط»، حسب أسوشيتدبرس، وتأثير إقليمى على جميع الأطراف المعنية بما فى ذلك الولايات المتحدة. وقد يبدو الأمر مفاجأة لمن ليتابع الوضع الإقليمى والدولى خلال السنوات الأخيرة، وتحركات مصر لبناء قدرتها داخليا وإقليميا ودوليا، بناء على خطاب واضح يقوم على المعلومات وإدراك معادلات القوة والنفوذ، ولا تبنى مصر مواقفها على رد الفعل، لكن على الفعل القائم على إدراك أوراق القوة.
لم تولد الثقة الدولية فى الموقف والدور المصرى فجأة، لكنها تقوم على قراءة واضحة لمعطيات الواقع، أثبتت التجارب كيف نجحت مصر بالكثير من الجهد والصبر فى انتزاع الكثير من الفتائل، وتغيير وجهات النظر الدولية فى القضايا الأكثر سخونة واشتعالا، ففى ليبيا قبل سنة واحدة، لم يكن أكثر الأطراف تفاؤلا يتصور أن يتحول مسار الأحداث فى ليبيا، وعندما أعلن الرئيس السيسى خطوط مصر الحمراء فى ليبيا يوليو الماضى، مع أهمية خروج القوات والميليشيات الأجنبية، وأن يدير الليبيون بلادهم ويتم تدعيم المؤسسات الوطنية، لم تكن أكثر الأطراف تفاؤلا تتصور إمكانية إخراج ليبيا من أزمتها، لكن ما جرى هو أن الرؤية المصرية انتصرت، وبدا الليبيون يديرون بلادهم من خلال برلمان ومجلس وطنى وحكومة، وأصبحت القوى الدولية تدعم وجهة النظر المصرية.
فى شرق المتوسط، دعمت مصر علاقاتها مع دول المتوسط، فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص، مع تأكيد أهمية احترام الدول وعدم التدخل مع الحفاظ على الأمن القومى للدول الوطنية، وبالرغم من نمو كبير فى قدرات مصر العسكرية، بحرا وجوا وبرا، لم تتورط فى اعتداء أو تدخل، وحرص الرئيس السيسى دائما على تأكيد أن مصر لديها القدرة، وأن قواتها المسلحة رشيدة تحمى ولا تهدد ولا تعتدى، مع قدرتها على حماية الأمن القومى بالداخل والخارج.
ولم تتخل مصر عن دورها فى دعم السودان ووحدته وإعادته للمجتمع الدولى، وآخرها مؤتمر باريس لإسقاط الديون، وتقديم قروض ومعونات وتدعيم الإصلاح الاقتصادى مع دعم اتفاقيات الوحدة الوطنية.
ولم تتوقف القاهرة والرئيس عبدالفتاح السيسى عن دوره فى أفريقيا، سواء أثناء أو قبل وبعد رئاسة مصر للاتحاد الأفريقى، ومعاونة الأشقاء من خلال مبادرات اقتصادية وصحية لدول أفريقيا مع بناء علاقات دائمة وقوية حرصا على مصالح الجميع.
لقد بنت مصر قوتها الفعلية والمعنوية داخليا وإقليميا، من دون إهمال ملف لصالح آخر، بل إن البناء الداخلى للاقتصاد والتنمية ومكافحة الإرهاب، مع بناء القدرة الإقليمية والدولية من خلال تقديم مبادرات تقوم على قراءة الواقع، والمعلومات والاطلاع على الأوراق، لدرجة أن قوى كانت قبل عام واحد فى صدارة التدخلات تراجعت، بينما تتقدم مصر بخطى ثابتة.
بقلم أكرم القصاص