موقع مصرنا الإخباري:
رحل الفنان سمير غانم، وترك وراءه سؤالا آثار الجدل بين محبيه وعشاق فنه الكوميدى البسيط. هل تعمّد ملك دولة الكوميديا الحديثة فى مصر النأى عن السياسة والابتعاد عن شرورها، على طريقة المثل الشعبى الدارج “ابعد عن الحب وغنّى له”؟!
سمير غانم رحل وترك تراثا إنسانيا مهولا فى علاقته بكل زملائه وأصدقائه فى الوسط الفنى وخارجه. الكل أحبه، وهو أحب الجميع. وقوفه إلى جوار زملائه، وإلى جوار الشباب ولو بمشهد واحد، أمر معروف عنه، فهو مجامل بامتياز. مُحب لم يهوَ إقحام ذاته فى معارك شخصية لن تُفضى إلا إلى “العكننة” والخصام، وهو الفنان الذى اعتاد إضحاك الناس ورسم البسمة على وجوههم، والتعايش فى سلام وأمان نفسى، فكيف يدخل فى صراعات فنية وخصومات شخصية؟!
النقاد والفنانون والجمهور أيضا اعتبروا أن مساحة الحزن التى غطت أرجاء مصر والعالم العربى دليل على مساحة الحب الكبيرة لنجمنا الراحل الجميل “سمير” – هكذا كنا نسميه – إلى جوار جورج والضيف، الذى قاد جيلنا طوال 50 عاما للبسمة والضحكة والإفيه المفاجئ والمدهش وغير التقليدى فى كل أعماله.
أعتقد أن “سمير” مات من الضحك وليس من شىء آخر، مع تقديرى لهيبة الموت ومأساة المرض، فلم تفارق الضحكة حياته، وكلما شاهدناه انتظرنا كل كلمة منه لنضحك ونُفرّج عن همومنا، فقد أصبح علامة تجارية مسجلة للضحك والابتسام، منذ ظهوره وطوال 60 عاما أثمرت أكثر من 300 عمل فنى.
انحاز سمير غانم إلى الضحك فقط بكل ما يحمله ذلك من بساطة وسهولة فى الأداء والإلقاء والتعبير بالحركات والملابس، والحوار المفاجئ الذى كان الجمهور يتمنى ألا ينتهى، ولهذا أيضا كان الضحك قانون النجاح وميزان العلاقة بين خشبة المسرح ومقاعد الجمهور، وهذا هو سر تفرّد “سمير” وتميّزه عن أقرانه من فنانى الكوميديا، واحتلاله عرش هذا النوع الفنى دون منافسة أو منافس، فمسرح الارتجال فاز به “سمير” فى مواجهة مسرح الجدية والرصانة لدى محمد صبحى، والمسرح التجارى عند عادل إمام.
السؤال؛ هل ابتعد سمير غانم عن السياسة عمدا؟ وهل بالفعل لم يحاول الاقتراب من السلطة أو خطب ودّها أو مداهنتها باستغلال جماهيريته العريضة؟ دائما ما كان يقول: “أنا لا أفهم فى السياسة مطلقا”، وذلك رغم بعض مسرحياته الكوميدية التى تعرضت لمقص الرقيب، مثل: جحا يحكم المدينة، وأخويا هايص وأنا لايص، التى حول فيها السياسة إلى “إفيهات” غارقة فى الضحك.
أما عن علاقته بالزعماء الذين حكموا مصر، فقد أحب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وقد حضر “ناصر” ذات مرة عرضا لثلاثى أضواء المسرح، سمير وجورج والضيف، وقدموا أمامه الاسكتش الكوميدى الشهير “كوتوموتو يا حلوة يا بطة”. ربما لم يضحك “عبد الناصر” ظاهريا، وإنما ضحك من داخله بدليل أن الثلاثى قدم عدة “اسكتشات” فى زفاف ابنتيه منى وهدى، بحضور الزعيم ووسط ابتسامته.
رغم ابتعاد سمير غانم عن السياسة؛ إلا أنها جذبته إليها رغم أنفه.كيف؟
عقب نكسة 5 يونيو 1967 قدم ثلاثى أضواء المسرح عرضا مسرحيا بعنوان “مطلوب ليمونة”، تأليف أشهر مذيعى الإذاعة وقتها، الإعلامى الكبير أحمد سعيد، المحسوب على النظام الناصرى. لم يتصور “سمير” ورفيقيه جورج والضيف أن هذا العرض المسرحى بالتحديد سيتعرض لتدخل الرقابة، بعدما أنفقوا كل ما جمعوه من عملهم فى الملاهى الليلية بشارع الهرم لتحقيق طموحهم فى المسرح، لكنهم فوجئوا بإزالة إعلانات المسرحية من الشوارع، ومحوها تمامًا بأمر من وزير الداخلية شعراوى جمعة، الذى التقى بهم وتساءل، حسب رواية سمير: “قصدكم مطلوب ليمونة، فى بلد قرفانة”، معتبرا الاسم إسقاطا سياسيا، وهو ما لم يكن فى حسبانهم، فقرروا عرض مسرحية “عزبة الورد” من تأليف على سالم وإخراج الفنان عبد المنعم مدبولى، وحضر شعراوى جمعة ليلة عرضها الأولى وأجاز المسرحية.
أما السادات فكان رجلا محبا للفن، وللمسرح تحديدا، وكان ضحوكاً، قدّم “سمير” أمامه عروضا كوميدية برفقة جورج سيدهم بعد وفاة صديقهما الضيف أحمد، ويتذكر سمير: “لم أنس هذه الحفلة التى قدّمنا فيها المخرج محمد سالم لتبادل التحية مع السادات”.
زاد خوف “سمير” من السياسة بعد تعرضه فى مسرحية “جحا يحكم المدينة” التى كتبها وحيد حامد لرقابة حادة، وتواجد الرقيب فى المسرح كل ليلة عرض بالعام 1985، وكان النص يناقش الفساد والانتهازية والرشوة. ويحكى سمير غانم فى لقاء تليفزيونى: “كان الرقيب يحضر وفى يده سكريبت المسرحية، يدقق فى كل كلمة، ما دعانى للخروج عن النص، وأبلغته أنه لا فائدة مما يفعله، خاصة أن الجمهور يضحك، كان يقيدنى، لكن خروجى عن النص المكتوب ضاعف حيرته، وزاد حرصه على التدخل لإزالة أية عبارة أو جملة”.
موقف آخر غريب تعرض له سمير غانم خلال الثمانينيات، فعقب عودة العلاقات المصرية العربية، تلقى دعوة رسمية لعرض مسرحية “المتزوجون” فى دمشق، لكن اعترض المسرحيون السوريون على عرضها، لأنها تنتمى للمسرح الضاحك دون مضمون، بحسب وجهة نظرهم، بينما ينحاز المسرح السورى للمدرسة الجادة والأعمال التاريخية، فاضطرت الدكتورة نجاح العطار، وزيرة الثقافة فى وقت الرئيس حافظ الأسد، والتى شغلت منصب نائب الرئيس بشار الأسد لاحقا، إلى الاعتذار للفرقة، والنجمين سمير وجورج، وفى موقف يحدث لأول مرة بسبب عرض مسرحى، أرسلت الوزيرة الاعتذار ليُنشر فى الصحف المصرية الرسمية.
هذه المواقف كلها، التى وجد سمير غانم نفسه خلالها غارقا فى السياسة رغم أنفه، لم تدفعه إلى الاقتراب من السلطة أو التودد لها، وإنما قرر حماية فنه وموهبته من خلال الجمهور والأعمال المخلصة للبهجة، ما حافظ على استمرار مسيرة ثلاثى أضواء المسرح، ومسيرة سمير شخصيا.. ولنا عن الثلاثى قصة أخرى.
بقلم عادل السنهوري